الشبهة:
قال ميرزا غلام أحمد إن الله يصلي ويصوم وينام ويصحو ويكتب ويوقع ويصيب ويخطئ ويجامع ويلد ويتجزأ.
الردّ:
أنقل فقرة مما قاله المسيح الموعود عليه السلام في الله تعالى ما تعريبه:
"إن إلهنا هو ذلك الإله الذي هو حيٌّ الآن كما كان حيًّا من قبل، ويتكلم الآن كما كان يتكلم من قبل، ويسمع الآن كما كان يسمع من قبل. إنه لظَنٌّ باطل بأنه سبحانه وتعالى يسمع الآن ولكنه لم يعد يتكلم. كلا، بل إنه يسمع ويتكلم أيضًا. إن صفاته كلها أزلية أبدية، لم تتعطل منها أية صفة قط، ولن تتعطل أبدًا. إنه ذلك الأحد الذي لا شريكَ له، ولا ولدَ له، ولا صاحبةَ له. وإنه ذلك الفريد الذي لا كفوَ له... إنه قريب مع بُعده، وبعيد مع قربه، وإنه يمكن أن يُظهر نفسه لأهل الكشف على سبيل التمثُّل، إلا أنه لا جسمَ له ولا شكلَ.... وإنه على العرش، ولكن لا يمكن القول إنه ليس على الأرض. هو مجمع الصفات الكاملة كلها، ومظهر المحامد الحقة كلها، ومنبع المحاسن كلها، وجامع للقوى كلها، ومبدأ للفيوض كلها، ومرجع للأشياء كلها، ومالك لكل مُلكٍ، ومتصفٌ بكل كمالٍ، ومنـزه عن كل عيب وضعف، ومخصوص بأن يعبده وحده أهلُ الأرض والسماء." (الوصية، الخزائن الروحانية ج20 ص 309 -310)
وقبل الرد كذلك لا بد من ذكر مثال: تخيل أن نصرانيا قال: إن محمدا يصف الله تعالى بأنه يمرض ويجوع ويعطش.. فسألناه من أين لك هذا؟ فقال: من الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي.
سنقول له: أنت كذاب رغم أن هذه الكلمات موجودة، لكنها ليست بهذا التسلسل ولا بهذا السياق. فالحديث بنصه يقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي.
وحتى لا نتخيل دعونا نقرأ قول اليهود الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء. وقد استدلوا على فكرتهم السامية! من الآية إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم. فما دام الله يستقرض فهو فقير!
يقول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)، فهل يصح القول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينسب إلى الله الصلاة في القرآن الكريم؟ أم تقول: إن الصلاة من الله تعني الرحمة ومن الملائكة تعني الاستغفار، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَرِد عنه هذا التوضيح، ولكننا إذ نؤمن بصدقه نعود إلى المحكم من القرآن الذي جاء به لنفهم في ضوئه المتشابَه، فرجعنا فقلنا بهذا التفسير. فلماذا لا تكون هذه كتلك؟
وإني على يقين أن هذا التوضيح كافٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومع هذا فسأضيف بالنسبة إلى صوم الله الذي ورد في إلهام "إني مع الرسول أقوم، ومن يلومه ألوم، أفطر وأصوم "؟ فقد أراد الله سبحانه وتعالى من هذا الإلهام لسيدنا أحمد عليه السلام أن يؤكد له على أنه معه ويقوم بأمره ضد أعدائه وينصره على من يخالفه، ويلوم ويعاقب من يلومه. ثم قال: "أفطر وأصوم"، وقد شرح سيدنا أحمد بنفسه هذا الإلهام كما يلي: "... ومن البديهي أن الله سبحانه وتعالى مُنـزّه عن الصوم والإفطار، وهذه الكلمات لم تُنسب إليه حرفيا على ظاهرها، بل استُعمِلت على سبيل الاستعارة، ومقصدها أن الله هو القهّار والجبّار، وأنه أحيانا يُنزل قهره على الناس، وأحيانا يمهلهم إمهالا (للتوبة) ..... ومثل هذه الكلمات وردت في الحديث القدسي أيضا...". (حقيقة الوحي ص104)
والحديث القدسي الذي أشار إليه سيدنا أحمد عليه السلام هو ذلك الذي أوردنا سابقا. ففي هذا الحديث القدسي ذكر الله سبحانه ثلاث كلمات: "مرضتُ"، "استطعمتك"، "استسقيتك". ولكن من الواضح أن استعمال هذه الكلمات قد جاء على سبيل الاستعارة، فتعالى الله عن أن يصيبه مرض أو جوع أو عطش. وكذلك في الوحي الذي نحن بصدده.. إن الله لا يفطر ولا يصوم بالمعنى الحرفي، فهو استعارة أيضًا.
وأما أن الله يخطئ ويصيب الذي جاء في إلهام "إني مع الأفواج آتيك بغتة، إني مع الرسول أجيب، أخطي وأصيب"، فالمقصود من هذا الوحي أن الله سبحانه وتعالى سوف يؤيد سيدنا أحمد عليه السلام، وأنه سوف ينصره بالأفواج السماوية التي تأتي لنصرته، وأن هذه النصرة سوف تأتي بغتة وتُفاجئ أعداءه ومعارضيه، تماما كما يؤيد الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله وينصرهم على أعدائهم في الوقت الذي يظن فيه هؤلاء أنهم قد نجحوا في محاصرة الدعوة الجديدة للقضاء عليها.
والمقصود من كلمة "أخطي" التي أصلها كلمة "أخطئ" هو أن الله تعالى إذا شاء لا ينفذ حكمه أحيانا على الناس بل يُمهلهم ويمدّ لهم، فكأن قدره وعذابه وعقابه قد أخطأهم، بمعنى أنه لم يصبهم. وتعني كلمة "أصيب" أنه تعالى إذا شاء ينفذ حكمه وإرادته، ويقضي بتنفيذ عقابه وظهور جلاله وتجلّي جبروته على الناس.
وقد شرح سيدنا أحمد عليه السلام هذا الإلهام فقال: "سبحانه وتعالى من أن يخطي، فقوله أخطي قد ورد على طريق الاستعارة كمثل لفظ التردد المنسوب إلى الله تعالى في الأحاديث" (الخزائن الروحانية ج22-كتاب حقيقة الوحي ص714). ومن المعروف أنه قد ورد في الحديث القدسي الشريف قوله تعالى: "وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن" (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع). وفي هذا الحديث يقول تعالى أنه يتردد في قبض روح المؤمن، ولكن هذا القول وارد بأسلوب الاستعارة، إذ تعالى الله عن أن يأخذه التردد وكأنه لا يعرف ماذا يريد أن يفعل كشأن الإنسان الذي يتردد في فعل أمر لأنه لا يأمن عواقبه ولا يدري نتائجه!
كذلك فقد ورد نفس أسلوب استعمال الاستعارة في القرآن الكريم، إذ نسب الله تعالى لنفسه النسيان حيث قال: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا). ولا شك أن كلمة {نَنْسَاهُمْ} في هذه الآية لا تؤخذ بحرفيتها وإنما هي استعارة تفيد أن الله تعالى سيتجاهلهم كما تجاهلوا هم لقاء ذلك اليوم. فالله تعالى منـزّه عن النسيان والتردد والخطأ، ولكنها كلها كلمات ذُكرت على سبيل الاستعارة ولا اعتراض عليها.
وبالنسبة إلى تهمة أن الله يجامع أو أن له ولدا، فهذه من سقيم أفهامهم وسوء أدبهم وغبائهم في كذبهم، فمن يصدقهم في مثل هذه الكذبة؟ فأي انحدار هذا الذي إليه يصلون؟ وأي انحطاط هم فيه خالدون! وقد أتوْا بها من خلال تشويه هذا الإلهام: "أنت من مائنا وهم من فشل"، وقد شرح سيدنا أحمد عليه السلام بنفسه هذا الإلهام فقال ما تعريبه من الأردية:
"... الماء (هنا) هو ماء الإيمان والاستقامة والتقوى والوفاء والصدق وحب الله عز وجل الذي يكتسبه الإنسان من الله سبحانه وتعالى. والمقصود هنا من كلمة "فشل" هو الجبن والخيبة اللذان يأتيان من الشيطان، وإن أصل الكفر والفحش هو الجبن والخيبة..." (الخزائن الروحانية ج11- كتاب: نهاية آتهم "أنجام آتهم" ص56 بالحاشية)
وهكذا يتضح أن المقصود من كلمة "ماء" هو ماء الإيمان.. ماء التقوى.. ماء الاستقامة.. ماء الوفاء الذي يُنزله سبحانه ويهبه لسيدنا أحمد المسيح الموعود عليه السلام من فضله ورحمته.
وبالنسبة إلى التجسد والتشبيه فمعاذ الله أن يقول المسيح الموعود عليه السلام بمثل هذا، ولا ريب أن القائل أدرى بمراده من قوله، وشرحُه يُقدَّم على كل تفسير، فما دام المسيح الموعود قد شرح عبارته فلا يجوز شرحها بغير ذلك، وما دام فلان قد شرح قصده من أي عبارة قالها، فلا يُلتفت إلى شرح الناس.
وأما النص الذي نقل بعضه واتهم فيه المسيح الموعود بأنه يُشَبّه الله بالأخطبوط، فهي كذبة لا تختلف عن سابقتها، لقد كان المسيح الموعود يبين بأن الله تعالى هو عِلّة العِلل الذي تقوم بوجوده كل الموجودات. ثم يقول: إن علاقة الله بالمخلوقات والعالمين جميعا كعلاقة الروح بالجسد، فكما أن جميع الأعضاء تكون تابعة لإرادة الروح وتميل حيثما مالت الروح، فالأمر ذاته بالنسبة إلى العلاقة بين الله ومخلوقاته.
ثم يقول: لقد كشف عليَّ الحكيمُ مُطلقُ الحكمةِ هذا السرّ؛ بأن هذا الكون كله مع جميع أجزائه هو كالأعضاء التي لا تقوم بنفسها، بل تستمد القوة كل حين من ذلك الروح الأعظم من أجل تنفيذ أفعال علّة العِلل تلك وإراداتِها، كما تكون جميع قوى الجسم بوجود الروح فيه، وبعض أشياء هذا الكون -الذي هو بمنـزلة الأعضاء لذلك الروح الأعظم- هي بمنـزلة نور وجهه سبحانه وتعالى التي تمدّ بالنور ظاهرًا أو باطنًا بحسب إراداته سبحانه وتعالى، وبعض هذه الأشياء هي بمنـزلة يده، وبعضها بمنـزلة رجله، وبعضها بمنـزلة نَفَسِه سبحانه وتعالى. باختصار، إن مجموعة هذا العالم هي بمنـزلة الجسم بالنسبة إلى الله تعالى، وكل ما لهذا الجسم من رونق وبهاء وحياة إنما هو بسبب ذلك الروح الأعظم الذي هو قيّومه. وكلما تحركت إرادة ذلك القيوم تحركت أعضاء هذا الجسم كلها أو بعضها بحسب ما يقتضيه القيوم.
لتصوير البيان المذكور أعلاه يمكننا أن نفرض على سبيل التخيّل أن قيّوم العالمين هو وجود أعظم له أعضاء من أيدٍ وأرجل تخرج عن حدّ الإحصاء والطول والعرض، وأنّ لهذا الوجود الأعظم خيوطًا -كما تكون للإخطبوط- تصل إلى أنحاء صفحة الوجود كله وتعمل عمل الجاذبية، وهذه الأعضاء هي نفسها التي تسمى العالم. وكلما تحرَّك قيّوم العالم حركة جزئية أو كلية فلا بد من أن تحدث حركة في أعضاء هذا العالم، وسوف ينفذ جميع إراداته من خلال هذه الأعضاء وليس بطريق آخر. فهذا هو المثال الوحيد سهل الفهم لهذا الأمر الروحاني. (طبعة الخزائن الروحانية، مجلد3، توضيح المرام، ص88-90 وبحسب الطبعة السابقة ص75)
لقد كان المسيح الموعود عليه السلام قبل ذلك يتحدث عن دور الملائكة، وهنا يبين بمثال لتسهيل الفهم كما قال ليس أكثر.
وأما أن الله يوقِّع فإن هذا كشف، وليس على الحقيقة. ورؤية الله في الكشف لها معنى، وإذا أراد الشيخ معرفة هذه الأمور فليرجع إلى أي كتاب في تفسير الرؤى والأحلام.
وبالنسبة إلى الوحي الذي يقول الله فيه: "أنت مني وأنا منك، أنت مني بمنـزلة ولدي"
فهذه الكلمات الإلهامية تدل على علاقة المودة والمحبة التي كانت بين الله تعالى وبين سيدنا أحمد عليه السلام. وقد استُعمِل نفس هذا الأسلوب في القرآن المجيد وفي الأحاديث الشريفة وفي كلام العرب بغرض إظهار غاية المحبة والمودة بين المتكلم والمخاطب. فقد ورد في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: (فَمَنْ تَبِعَنيِ فَإِنَّهُ مِنيِّ)، ولا يقول عاقل إن كلمة "مني" تعني أن كل من اتبع سيدنا إبراهيم عليه السلام قد أصبح من أولاده، بل هي تدل على غاية الحب بينه وبين أتباعه حتى لكأنهم صاروا مثل أولاده. كذلك ورد في القرآن المجيد بأن طالوت قال لجنوده: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنيِّ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّي). ولا يُفسر أحد هذه الآية بأن كل من لم يشرب قد صار من أولاد طالوت، بل تعني أن من شرب لن يكون من أتباع طالوت، وأن من لم يشرب فهو مع طالوت وطالوت معه.
وقد فسر سيدنا أحمد عليه السلام هذا الوحي، وشرح معناه بكل الوضوح، ولكن المعارضين يتجاهلون ذلك الشرح والتفسير، ويحاولون أن يؤوّلوه كما يحلو لهم حتى يُضلّوا خلق الله ويصرفونهم عن الحق. ويتلخص تفسير المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام لهذا الوحي أن قوله تعالى: "أنت مني" يعني أنك مبعوث من قِبَلي، وقوله: "أنا منك" يشير إلى وحدانية الله التي فُقِدت في العصر الحاضر بين الناس، حيث يُنكر الملحدون وجود الله تعالى، ويزعم المسيحيون أن الله ثالث ثلاثة، واتخذ اليهود أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، واتخذ غيرهم من البشر مثل الهندوس والبوذيون وغيرهم رجالا رفعوهم إلى مرتبة الآلهة كما فعل المسيحيون بعيسى بن مريم عليه السلام، وانصرف المسلمون عن جوهر الشريعة وتمسكوا بالمظهر حتى يكاد ينطبق عليهم قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ). ففي هذه الظروف يقول تعالى لعبده الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام: "أنا منك" إشارة إلى أن وحدانية الله المفقودة في هذا العصر.. عصر الإلحاد وفقدان الإيمان وانتشار التثليث والشرك.. هذه الوحدانية سوف تعود وتعلو وتظهر بواسطتك وبواسطة جماعتك.
وأما ما جاء من قول الله تعالى في وحي سيدنا أحمد عليه السلام: "أنت مني بمنـزلة ولدي"، فهو يماثل قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله" (المشكاة، باب الشفقة والرحمة على الخلق، الفصل الثالث، ومرقاة المفاتيح ج9 ص244). وقد فسّر سيدنا أحمد عليه السلام بنفسه هذا الوحي فقال:
"... سبحان الله وتعالى أن يكون له ولد، ولكن هذا استعارة كمثل قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ)، والاستعارات كثيرة في القرآن ولا اعتراض عليها عند أهل العلم والعرفان، فهذا القول ليس بقول منكر، وتجد نظائره في الكتب الإلهية وأقوال قوم روحانيين يسمّون بالصوفية، فلا تعجلوا علينا يا أهل الفطنة..." (الخزائن الروحانية: ج22- كتاب: الاستفتاء ص709).
كذلك لا يغيب عن البال أن الله تعالى قد بعث سيدنا أحمد عليه السلام وجعله المسيح الموعود، أي جعله مثيلا لعيسى ابن مريم عليه السلام، وحيث أن المسيحيين قد غلوا في أمر المسيح بن مريم واعتبروه ابن الله وأنه وحده من دون الخلق جميعا الذي يعتبر "ولد الله" والعياذ بالله، لذلك أراد سبحانه أن يُبيّن مرتبة رسوله الأعظم وسيد الخلق أجمعين عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه أفضل الصلاة والتسليم، فبعث رجلا من خدام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه، وجعله مثيلا لذلك الذي اتخذه النصارى "ولد الله"، وقال له أنت بمنـزلة ذلك الذي زعموا أنه ابن الله، وكأنه سبحانه يُبكّت أولئك المغضوب عليهم والضالين الذين ذكر تعالى عنهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ)، فكأنه سبحانه يقول إنني جعلت واحدا من خدام محمد صلى الله عليه وسلم في منـزلة ذلك الذي زعمتم أنه ولدي، فإذا كانت هذه منـزلة الخادم، فما أعظمها وأرفعها وأعلاها منـزلة السيد الذي أنتم عنه غافلون!
وبالنسبة إلى إلهام (كأن الله نزل من المساء) فهذا الوحي كان بشرى من الله سبحانه وتعالى لسيدنا أحمد عليه السلام، وكان يتعلق بولادة غلام له فقال سبحانه: "إنّا نبشرك بغلام مظهر الحق والعلا، كأن الله نزل من السماء" (تذكرة ص 281). وكانت هذه البشارة طبق السُنّة الإلهية، كما ورد في القرآن المجيد أن الله تعالى بشَر بعض عباده بولادة أبناء لهم، فقال أنه قد بشّر إبراهيم بولادة إسماعيل عليهما السلام (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ)، وبشّره أيضا بولادة إسحاق، وبشّر الله تعالى زكريا بولادة يحيى عليهما السلام، كما بشر الله تعالى السيدة مريم بولادة المسيح عليهما السلام.
يعترضون على الإلهام: "كأن الله نزل من السماء"، ولا يقرءون حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يتنزّل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير". (صحيح البخاري). فهل يعني هذا الحديث أن الله تعالى يغادر عرشه وينزل بالفعل إلى السماء الدنيا في الجزء الأخير من الليل؟ ألا يعلمون أنه في كل لحظة هنالك ثلث أخير من الليل في منطقة من مناطق الكرة الأرضية؟ أيظل الله نازلا إذًا، والعياذ بالله؟
إن نزول الله من السماء يعني أنه يكون أقرب إلى العبد الذي ينهض من فراشه في الثلث الأخير من الليل ويدعو ربه ويناجي خالقه، ولا يعني نزول الله إلى السماء الدنيا أنه ينتقل فعلا كما ينتقل البشر من مكان إلى مكان، وعلى ذلك فحين يوصف ذلك الغلام المبارك بأن مجيئه يكون كأن الله نزل من السماء، فإن هذا يعني أن هذا الغلام سيكون وسيلة لتقريب الناس إلى الله تعالى وهدايتهم إليه، وبذلك فإنه سيكون "المصلح الموعود" الذي يهبه الله تعالى قوة ربّانية وقدرة روحانية فيكون سببا لهداية الكثير من خلق الله.
وقد وُلِدّ ذلك الغلام المبارك بتاريخ 10 جمادى الأول 1306هـ الموافق 12 كانون الثاني (يناير) 1889م، وكان متصفا بجميع الأوصاف والصفات المذكورة في الوحي الذي تلقاه عنه سيدنا أحمد عليه السلام، وأصبح بذلك برهانا على صدقه. بل إنه أصبح برهانا على عظمة الله تبارك وتعالى وصدق رسوله الأكرم سينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن أعداء الإسلام طلبوا من سيدنا أحمد عليه السلام آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صدق دين الإسلام وتكون برهانا على أن الإله الذي يعبده المسلمون هو إله حي قيوم يتكلم ويستجيب أدعيتهم. فالحمد لله أنه سبحانه قد أراهم هذه المعجزة العظيمة التي ظلت مشرقة في سماء العالم، ونوّرت الدنيا على مدى 75 عاما، بل ما زالت الجماعة الإسلامية الأحمدية تستفيد من العلم الرباني الذي تركه ذلك الغلام المبارك، ومن كتبه صعبة الحصر، ومن تفسيراته العظيمة، وأنظمته ومشاريعه التي أقامها، والتي ستظل ثمارها تجود بخيرها إلى يوم القيامة إن شاء الله.
قال ميرزا غلام أحمد إن الله يصلي ويصوم وينام ويصحو ويكتب ويوقع ويصيب ويخطئ ويجامع ويلد ويتجزأ.
الردّ:
أنقل فقرة مما قاله المسيح الموعود عليه السلام في الله تعالى ما تعريبه:
"إن إلهنا هو ذلك الإله الذي هو حيٌّ الآن كما كان حيًّا من قبل، ويتكلم الآن كما كان يتكلم من قبل، ويسمع الآن كما كان يسمع من قبل. إنه لظَنٌّ باطل بأنه سبحانه وتعالى يسمع الآن ولكنه لم يعد يتكلم. كلا، بل إنه يسمع ويتكلم أيضًا. إن صفاته كلها أزلية أبدية، لم تتعطل منها أية صفة قط، ولن تتعطل أبدًا. إنه ذلك الأحد الذي لا شريكَ له، ولا ولدَ له، ولا صاحبةَ له. وإنه ذلك الفريد الذي لا كفوَ له... إنه قريب مع بُعده، وبعيد مع قربه، وإنه يمكن أن يُظهر نفسه لأهل الكشف على سبيل التمثُّل، إلا أنه لا جسمَ له ولا شكلَ.... وإنه على العرش، ولكن لا يمكن القول إنه ليس على الأرض. هو مجمع الصفات الكاملة كلها، ومظهر المحامد الحقة كلها، ومنبع المحاسن كلها، وجامع للقوى كلها، ومبدأ للفيوض كلها، ومرجع للأشياء كلها، ومالك لكل مُلكٍ، ومتصفٌ بكل كمالٍ، ومنـزه عن كل عيب وضعف، ومخصوص بأن يعبده وحده أهلُ الأرض والسماء." (الوصية، الخزائن الروحانية ج20 ص 309 -310)
وقبل الرد كذلك لا بد من ذكر مثال: تخيل أن نصرانيا قال: إن محمدا يصف الله تعالى بأنه يمرض ويجوع ويعطش.. فسألناه من أين لك هذا؟ فقال: من الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي.
سنقول له: أنت كذاب رغم أن هذه الكلمات موجودة، لكنها ليست بهذا التسلسل ولا بهذا السياق. فالحديث بنصه يقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي.
وحتى لا نتخيل دعونا نقرأ قول اليهود الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء. وقد استدلوا على فكرتهم السامية! من الآية إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم. فما دام الله يستقرض فهو فقير!
يقول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)، فهل يصح القول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينسب إلى الله الصلاة في القرآن الكريم؟ أم تقول: إن الصلاة من الله تعني الرحمة ومن الملائكة تعني الاستغفار، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَرِد عنه هذا التوضيح، ولكننا إذ نؤمن بصدقه نعود إلى المحكم من القرآن الذي جاء به لنفهم في ضوئه المتشابَه، فرجعنا فقلنا بهذا التفسير. فلماذا لا تكون هذه كتلك؟
وإني على يقين أن هذا التوضيح كافٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومع هذا فسأضيف بالنسبة إلى صوم الله الذي ورد في إلهام "إني مع الرسول أقوم، ومن يلومه ألوم، أفطر وأصوم "؟ فقد أراد الله سبحانه وتعالى من هذا الإلهام لسيدنا أحمد عليه السلام أن يؤكد له على أنه معه ويقوم بأمره ضد أعدائه وينصره على من يخالفه، ويلوم ويعاقب من يلومه. ثم قال: "أفطر وأصوم"، وقد شرح سيدنا أحمد بنفسه هذا الإلهام كما يلي: "... ومن البديهي أن الله سبحانه وتعالى مُنـزّه عن الصوم والإفطار، وهذه الكلمات لم تُنسب إليه حرفيا على ظاهرها، بل استُعمِلت على سبيل الاستعارة، ومقصدها أن الله هو القهّار والجبّار، وأنه أحيانا يُنزل قهره على الناس، وأحيانا يمهلهم إمهالا (للتوبة) ..... ومثل هذه الكلمات وردت في الحديث القدسي أيضا...". (حقيقة الوحي ص104)
والحديث القدسي الذي أشار إليه سيدنا أحمد عليه السلام هو ذلك الذي أوردنا سابقا. ففي هذا الحديث القدسي ذكر الله سبحانه ثلاث كلمات: "مرضتُ"، "استطعمتك"، "استسقيتك". ولكن من الواضح أن استعمال هذه الكلمات قد جاء على سبيل الاستعارة، فتعالى الله عن أن يصيبه مرض أو جوع أو عطش. وكذلك في الوحي الذي نحن بصدده.. إن الله لا يفطر ولا يصوم بالمعنى الحرفي، فهو استعارة أيضًا.
وأما أن الله يخطئ ويصيب الذي جاء في إلهام "إني مع الأفواج آتيك بغتة، إني مع الرسول أجيب، أخطي وأصيب"، فالمقصود من هذا الوحي أن الله سبحانه وتعالى سوف يؤيد سيدنا أحمد عليه السلام، وأنه سوف ينصره بالأفواج السماوية التي تأتي لنصرته، وأن هذه النصرة سوف تأتي بغتة وتُفاجئ أعداءه ومعارضيه، تماما كما يؤيد الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله وينصرهم على أعدائهم في الوقت الذي يظن فيه هؤلاء أنهم قد نجحوا في محاصرة الدعوة الجديدة للقضاء عليها.
والمقصود من كلمة "أخطي" التي أصلها كلمة "أخطئ" هو أن الله تعالى إذا شاء لا ينفذ حكمه أحيانا على الناس بل يُمهلهم ويمدّ لهم، فكأن قدره وعذابه وعقابه قد أخطأهم، بمعنى أنه لم يصبهم. وتعني كلمة "أصيب" أنه تعالى إذا شاء ينفذ حكمه وإرادته، ويقضي بتنفيذ عقابه وظهور جلاله وتجلّي جبروته على الناس.
وقد شرح سيدنا أحمد عليه السلام هذا الإلهام فقال: "سبحانه وتعالى من أن يخطي، فقوله أخطي قد ورد على طريق الاستعارة كمثل لفظ التردد المنسوب إلى الله تعالى في الأحاديث" (الخزائن الروحانية ج22-كتاب حقيقة الوحي ص714). ومن المعروف أنه قد ورد في الحديث القدسي الشريف قوله تعالى: "وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن" (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع). وفي هذا الحديث يقول تعالى أنه يتردد في قبض روح المؤمن، ولكن هذا القول وارد بأسلوب الاستعارة، إذ تعالى الله عن أن يأخذه التردد وكأنه لا يعرف ماذا يريد أن يفعل كشأن الإنسان الذي يتردد في فعل أمر لأنه لا يأمن عواقبه ولا يدري نتائجه!
كذلك فقد ورد نفس أسلوب استعمال الاستعارة في القرآن الكريم، إذ نسب الله تعالى لنفسه النسيان حيث قال: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا). ولا شك أن كلمة {نَنْسَاهُمْ} في هذه الآية لا تؤخذ بحرفيتها وإنما هي استعارة تفيد أن الله تعالى سيتجاهلهم كما تجاهلوا هم لقاء ذلك اليوم. فالله تعالى منـزّه عن النسيان والتردد والخطأ، ولكنها كلها كلمات ذُكرت على سبيل الاستعارة ولا اعتراض عليها.
وبالنسبة إلى تهمة أن الله يجامع أو أن له ولدا، فهذه من سقيم أفهامهم وسوء أدبهم وغبائهم في كذبهم، فمن يصدقهم في مثل هذه الكذبة؟ فأي انحدار هذا الذي إليه يصلون؟ وأي انحطاط هم فيه خالدون! وقد أتوْا بها من خلال تشويه هذا الإلهام: "أنت من مائنا وهم من فشل"، وقد شرح سيدنا أحمد عليه السلام بنفسه هذا الإلهام فقال ما تعريبه من الأردية:
"... الماء (هنا) هو ماء الإيمان والاستقامة والتقوى والوفاء والصدق وحب الله عز وجل الذي يكتسبه الإنسان من الله سبحانه وتعالى. والمقصود هنا من كلمة "فشل" هو الجبن والخيبة اللذان يأتيان من الشيطان، وإن أصل الكفر والفحش هو الجبن والخيبة..." (الخزائن الروحانية ج11- كتاب: نهاية آتهم "أنجام آتهم" ص56 بالحاشية)
وهكذا يتضح أن المقصود من كلمة "ماء" هو ماء الإيمان.. ماء التقوى.. ماء الاستقامة.. ماء الوفاء الذي يُنزله سبحانه ويهبه لسيدنا أحمد المسيح الموعود عليه السلام من فضله ورحمته.
وبالنسبة إلى التجسد والتشبيه فمعاذ الله أن يقول المسيح الموعود عليه السلام بمثل هذا، ولا ريب أن القائل أدرى بمراده من قوله، وشرحُه يُقدَّم على كل تفسير، فما دام المسيح الموعود قد شرح عبارته فلا يجوز شرحها بغير ذلك، وما دام فلان قد شرح قصده من أي عبارة قالها، فلا يُلتفت إلى شرح الناس.
وأما النص الذي نقل بعضه واتهم فيه المسيح الموعود بأنه يُشَبّه الله بالأخطبوط، فهي كذبة لا تختلف عن سابقتها، لقد كان المسيح الموعود يبين بأن الله تعالى هو عِلّة العِلل الذي تقوم بوجوده كل الموجودات. ثم يقول: إن علاقة الله بالمخلوقات والعالمين جميعا كعلاقة الروح بالجسد، فكما أن جميع الأعضاء تكون تابعة لإرادة الروح وتميل حيثما مالت الروح، فالأمر ذاته بالنسبة إلى العلاقة بين الله ومخلوقاته.
ثم يقول: لقد كشف عليَّ الحكيمُ مُطلقُ الحكمةِ هذا السرّ؛ بأن هذا الكون كله مع جميع أجزائه هو كالأعضاء التي لا تقوم بنفسها، بل تستمد القوة كل حين من ذلك الروح الأعظم من أجل تنفيذ أفعال علّة العِلل تلك وإراداتِها، كما تكون جميع قوى الجسم بوجود الروح فيه، وبعض أشياء هذا الكون -الذي هو بمنـزلة الأعضاء لذلك الروح الأعظم- هي بمنـزلة نور وجهه سبحانه وتعالى التي تمدّ بالنور ظاهرًا أو باطنًا بحسب إراداته سبحانه وتعالى، وبعض هذه الأشياء هي بمنـزلة يده، وبعضها بمنـزلة رجله، وبعضها بمنـزلة نَفَسِه سبحانه وتعالى. باختصار، إن مجموعة هذا العالم هي بمنـزلة الجسم بالنسبة إلى الله تعالى، وكل ما لهذا الجسم من رونق وبهاء وحياة إنما هو بسبب ذلك الروح الأعظم الذي هو قيّومه. وكلما تحركت إرادة ذلك القيوم تحركت أعضاء هذا الجسم كلها أو بعضها بحسب ما يقتضيه القيوم.
لتصوير البيان المذكور أعلاه يمكننا أن نفرض على سبيل التخيّل أن قيّوم العالمين هو وجود أعظم له أعضاء من أيدٍ وأرجل تخرج عن حدّ الإحصاء والطول والعرض، وأنّ لهذا الوجود الأعظم خيوطًا -كما تكون للإخطبوط- تصل إلى أنحاء صفحة الوجود كله وتعمل عمل الجاذبية، وهذه الأعضاء هي نفسها التي تسمى العالم. وكلما تحرَّك قيّوم العالم حركة جزئية أو كلية فلا بد من أن تحدث حركة في أعضاء هذا العالم، وسوف ينفذ جميع إراداته من خلال هذه الأعضاء وليس بطريق آخر. فهذا هو المثال الوحيد سهل الفهم لهذا الأمر الروحاني. (طبعة الخزائن الروحانية، مجلد3، توضيح المرام، ص88-90 وبحسب الطبعة السابقة ص75)
لقد كان المسيح الموعود عليه السلام قبل ذلك يتحدث عن دور الملائكة، وهنا يبين بمثال لتسهيل الفهم كما قال ليس أكثر.
وأما أن الله يوقِّع فإن هذا كشف، وليس على الحقيقة. ورؤية الله في الكشف لها معنى، وإذا أراد الشيخ معرفة هذه الأمور فليرجع إلى أي كتاب في تفسير الرؤى والأحلام.
وبالنسبة إلى الوحي الذي يقول الله فيه: "أنت مني وأنا منك، أنت مني بمنـزلة ولدي"
فهذه الكلمات الإلهامية تدل على علاقة المودة والمحبة التي كانت بين الله تعالى وبين سيدنا أحمد عليه السلام. وقد استُعمِل نفس هذا الأسلوب في القرآن المجيد وفي الأحاديث الشريفة وفي كلام العرب بغرض إظهار غاية المحبة والمودة بين المتكلم والمخاطب. فقد ورد في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: (فَمَنْ تَبِعَنيِ فَإِنَّهُ مِنيِّ)، ولا يقول عاقل إن كلمة "مني" تعني أن كل من اتبع سيدنا إبراهيم عليه السلام قد أصبح من أولاده، بل هي تدل على غاية الحب بينه وبين أتباعه حتى لكأنهم صاروا مثل أولاده. كذلك ورد في القرآن المجيد بأن طالوت قال لجنوده: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنيِّ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّي). ولا يُفسر أحد هذه الآية بأن كل من لم يشرب قد صار من أولاد طالوت، بل تعني أن من شرب لن يكون من أتباع طالوت، وأن من لم يشرب فهو مع طالوت وطالوت معه.
وقد فسر سيدنا أحمد عليه السلام هذا الوحي، وشرح معناه بكل الوضوح، ولكن المعارضين يتجاهلون ذلك الشرح والتفسير، ويحاولون أن يؤوّلوه كما يحلو لهم حتى يُضلّوا خلق الله ويصرفونهم عن الحق. ويتلخص تفسير المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام لهذا الوحي أن قوله تعالى: "أنت مني" يعني أنك مبعوث من قِبَلي، وقوله: "أنا منك" يشير إلى وحدانية الله التي فُقِدت في العصر الحاضر بين الناس، حيث يُنكر الملحدون وجود الله تعالى، ويزعم المسيحيون أن الله ثالث ثلاثة، واتخذ اليهود أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، واتخذ غيرهم من البشر مثل الهندوس والبوذيون وغيرهم رجالا رفعوهم إلى مرتبة الآلهة كما فعل المسيحيون بعيسى بن مريم عليه السلام، وانصرف المسلمون عن جوهر الشريعة وتمسكوا بالمظهر حتى يكاد ينطبق عليهم قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ). ففي هذه الظروف يقول تعالى لعبده الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام: "أنا منك" إشارة إلى أن وحدانية الله المفقودة في هذا العصر.. عصر الإلحاد وفقدان الإيمان وانتشار التثليث والشرك.. هذه الوحدانية سوف تعود وتعلو وتظهر بواسطتك وبواسطة جماعتك.
وأما ما جاء من قول الله تعالى في وحي سيدنا أحمد عليه السلام: "أنت مني بمنـزلة ولدي"، فهو يماثل قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله" (المشكاة، باب الشفقة والرحمة على الخلق، الفصل الثالث، ومرقاة المفاتيح ج9 ص244). وقد فسّر سيدنا أحمد عليه السلام بنفسه هذا الوحي فقال:
"... سبحان الله وتعالى أن يكون له ولد، ولكن هذا استعارة كمثل قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ)، والاستعارات كثيرة في القرآن ولا اعتراض عليها عند أهل العلم والعرفان، فهذا القول ليس بقول منكر، وتجد نظائره في الكتب الإلهية وأقوال قوم روحانيين يسمّون بالصوفية، فلا تعجلوا علينا يا أهل الفطنة..." (الخزائن الروحانية: ج22- كتاب: الاستفتاء ص709).
كذلك لا يغيب عن البال أن الله تعالى قد بعث سيدنا أحمد عليه السلام وجعله المسيح الموعود، أي جعله مثيلا لعيسى ابن مريم عليه السلام، وحيث أن المسيحيين قد غلوا في أمر المسيح بن مريم واعتبروه ابن الله وأنه وحده من دون الخلق جميعا الذي يعتبر "ولد الله" والعياذ بالله، لذلك أراد سبحانه أن يُبيّن مرتبة رسوله الأعظم وسيد الخلق أجمعين عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه أفضل الصلاة والتسليم، فبعث رجلا من خدام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه، وجعله مثيلا لذلك الذي اتخذه النصارى "ولد الله"، وقال له أنت بمنـزلة ذلك الذي زعموا أنه ابن الله، وكأنه سبحانه يُبكّت أولئك المغضوب عليهم والضالين الذين ذكر تعالى عنهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ)، فكأنه سبحانه يقول إنني جعلت واحدا من خدام محمد صلى الله عليه وسلم في منـزلة ذلك الذي زعمتم أنه ولدي، فإذا كانت هذه منـزلة الخادم، فما أعظمها وأرفعها وأعلاها منـزلة السيد الذي أنتم عنه غافلون!
وبالنسبة إلى إلهام (كأن الله نزل من المساء) فهذا الوحي كان بشرى من الله سبحانه وتعالى لسيدنا أحمد عليه السلام، وكان يتعلق بولادة غلام له فقال سبحانه: "إنّا نبشرك بغلام مظهر الحق والعلا، كأن الله نزل من السماء" (تذكرة ص 281). وكانت هذه البشارة طبق السُنّة الإلهية، كما ورد في القرآن المجيد أن الله تعالى بشَر بعض عباده بولادة أبناء لهم، فقال أنه قد بشّر إبراهيم بولادة إسماعيل عليهما السلام (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ)، وبشّره أيضا بولادة إسحاق، وبشّر الله تعالى زكريا بولادة يحيى عليهما السلام، كما بشر الله تعالى السيدة مريم بولادة المسيح عليهما السلام.
يعترضون على الإلهام: "كأن الله نزل من السماء"، ولا يقرءون حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يتنزّل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير". (صحيح البخاري). فهل يعني هذا الحديث أن الله تعالى يغادر عرشه وينزل بالفعل إلى السماء الدنيا في الجزء الأخير من الليل؟ ألا يعلمون أنه في كل لحظة هنالك ثلث أخير من الليل في منطقة من مناطق الكرة الأرضية؟ أيظل الله نازلا إذًا، والعياذ بالله؟
إن نزول الله من السماء يعني أنه يكون أقرب إلى العبد الذي ينهض من فراشه في الثلث الأخير من الليل ويدعو ربه ويناجي خالقه، ولا يعني نزول الله إلى السماء الدنيا أنه ينتقل فعلا كما ينتقل البشر من مكان إلى مكان، وعلى ذلك فحين يوصف ذلك الغلام المبارك بأن مجيئه يكون كأن الله نزل من السماء، فإن هذا يعني أن هذا الغلام سيكون وسيلة لتقريب الناس إلى الله تعالى وهدايتهم إليه، وبذلك فإنه سيكون "المصلح الموعود" الذي يهبه الله تعالى قوة ربّانية وقدرة روحانية فيكون سببا لهداية الكثير من خلق الله.
وقد وُلِدّ ذلك الغلام المبارك بتاريخ 10 جمادى الأول 1306هـ الموافق 12 كانون الثاني (يناير) 1889م، وكان متصفا بجميع الأوصاف والصفات المذكورة في الوحي الذي تلقاه عنه سيدنا أحمد عليه السلام، وأصبح بذلك برهانا على صدقه. بل إنه أصبح برهانا على عظمة الله تبارك وتعالى وصدق رسوله الأكرم سينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن أعداء الإسلام طلبوا من سيدنا أحمد عليه السلام آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صدق دين الإسلام وتكون برهانا على أن الإله الذي يعبده المسلمون هو إله حي قيوم يتكلم ويستجيب أدعيتهم. فالحمد لله أنه سبحانه قد أراهم هذه المعجزة العظيمة التي ظلت مشرقة في سماء العالم، ونوّرت الدنيا على مدى 75 عاما، بل ما زالت الجماعة الإسلامية الأحمدية تستفيد من العلم الرباني الذي تركه ذلك الغلام المبارك، ومن كتبه صعبة الحصر، ومن تفسيراته العظيمة، وأنظمته ومشاريعه التي أقامها، والتي ستظل ثمارها تجود بخيرها إلى يوم القيامة إن شاء الله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق